الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
الثَّانِي: أَنَّهُمَا فِي الْحَقِّ سَواء وَالْحُرْمَةُ وَالنُّسُكُ.وَالصَّحِيحُ عُمُومُ التَّسْوِيَةِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، كَمَا قال مَالِكٌ، وَعَلَيْهِ حَمَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ فِي الْمَوْسِمِ بِقَلْعِ أَبْوَابِ دُورِ مَكَّةَ حَتَّى يَدْخُلَهَا الَّذِي يَقْدُمُ، فَيَنْزِلُ حَيْثُ شَاءَ، وَهذا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ دُورَ مَكَّةَ هَلْ هِيَ مِلْكٌ لِأَرْبَابِهَا أَمْ هِيَ لِلنَّاسِ؟ الثَّانِي: يَنْبَنِي عَلَيْهِ هذا الْأَصْلُ، وَهُوَ أَنَّ مَكَّةَ هَلْ اُفْتُتِحَتْ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا؟ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ.وَقَدْ رَوَى عَلْقَمَةُ بْنُ نَضْلَةَ قال: تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وما نَرَى رِبَاعَ مَكَّةَ إلَّا السَّوَائِبَ، مَنْ احْتَاجَ سَكَنَ، وَمَنْ اسْتَغْنَى أَسْكَنَ.وَقَدْ بَيَّنَّا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ الْقَوْلَ فِي رِبَاعِ مَكَّةَ.وَاَلَّذِي عِنْدِي الْآنَ فِيهَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم افْتَتَحَ مَكَّةَ عَنْوَةً، لَكِنهُ مَنَّ عَلَيْهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَسُمُّوا الطُّلَقَاءَ، وَمَنَّ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ، أَمَرَ مُنَادِيَهُ فَنَادَى: مَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَتَرَكَهُمْ فِي مَنَازِلِهِمْ عَلَى أَحْوَالِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ عَلَيْهِمْ، وَلَكِن النَّاسَ إذَا كَثُرُوا وَارِدِينَ عَلَيْهِمْ شَارَكُوهُمْ بِحُكْمِ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ.وَقَدْ رَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ نَهَى أَنْ تُغْلَقَ مَكَّةُ زَمَنَ الْحَاجِّ، وَأَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَنْزِلُونَ مِنْهَا حَيْثُ وَجَدُوا فَارِغًا، حَتَّى كَانُوا يَضْرِبُونَ الْفَسَاطِيطَ فِي جَوْفِ الدُّورِ.المسألة السَّادِسَةُ:قوله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي دُخُولِ الْبَاءِ هَاهُنَا، فَمِنْهُمْ مَنْ قال: إنَّهَا زَائِدَةٌ، كَزِيَادَتِهَا فِي قوله: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ}، وَعَلَيْهِ حَمَلُوا قَوْلَ الشَّاعِرِ:
أراد وَنَرْجُو الْفَرَجَ.وَهذا مِمَا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي سَبِيلِ الْعَرَبِيَّةِ؛ لِأَنَّ حَمْلَ الْمَعْنَى عَلَى الْفِعْلِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْحَرْفِ.فَيُقال الْمَعْنَى: وَمَنْ يُهِمُّ فِيهِ بِمِيلٍ يَكُونُ ذَلِكَ الْمَيْلُ ظُلْمًا؛ لِأَنَّ الْإِلْحَادَ هُوَ الْمَيْلُ فِي اللُّغَةِ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ صَارَ فِي عُرْفِ الشَّرِيعَةِ مَيْلًا مَذْمُوما، فَرَفَعَ اللَّهُ الْإِشْكَالَ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْمَيْلَ بِالظُّلْمِ هُوَ الْمُرَادُ هَاهُنَا، وَالظُّلْمُ فِي الْحَقِيقَةِ لُغَةً وَشَرْعًا وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالذُّنُوبِ الْمُطْلَقَةِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَنَفْسِهِ، وَبِالذُّنُوبِ الْمُتَعَدِّيَةِ إلَى الْخَلْقِ، وَهُوَ أَعْظَمُ.وَلِذَلِكَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ لَهُ فُسْطَاطَانِ: أَحَدُهُمَا فِي الْحِلِّ، وَالآخر فِي الْحَرَمِ؛ فَكَانَ إذَا أراد الصَّلَاةَ دَخَلَ فُسْطَاطَ الْحَرَمِ، وَإِذَا أراد الْأَمْرَ لِبَعْضِ شَأْنِهِ دَخَلَ فُسْطَاطَ الْحِلِّ، صِيَانَةً لِلْحَرَمِ عَنْ قولهمْ: كَلًّا وَاَللَّهِ، وَبَلَى وَاَللَّهِ، حِينَ عَظَّمَ اللَّهُ الذَّنْبَ فِيهِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْجِنَايَاتِ تُعَظَّمُ عَلَى قَدْرِ عِظَمِ الزَّمَانِ، كَالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَعَلَى قَدْرِ عِظَمِ الْمَكَانِ، كَالْبَلَدِ الْحَرَامِ، فَتَكُونُ الْمَعْصِيَةُ مَعْصِيَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا بِنَفْسِ الْمُخَالَفَةِ، وَالثَّانِيَةُ بِإِسْقَاطِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، أَوْ الْبَلَدِ الْحَرَامِ فَإِنْ أَشْرَكَ فِيهِ أَحَدٌ فَقَدْ أَعْظَمَ الذَّنْبَ، وَمَنْ اسْتَحَلَّهُ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ أَعْظَمَ الذَّنْبَ، وَمَنْ اسْتَحَلَّهُ مُتَأَوِّلًا فَقَدْ أَعْظَمَ الذَّنْبَ قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السماوات وَالأرض، فَهِيَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ فِيهَا بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُولُوا: إنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ».وَهذا نَصٌّ. وَقَدْ قال أَبُو شُرَيْحٍ الْعَدَوِيُّ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ الْعَاصِي، وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إلَى مَكَّةَ: «ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ أُحَدِّثُك قَوْلًا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ، حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ: حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قال: إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر أَنْ يَسْفِكَ فِيهَا دَمًا، أَوْ يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُولُوا لَهُ: إنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ، وَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ».فَقِيلَ لِأَبِي شُرَيْحٍ: مَا قال لَك عَمْرٌو؟ قال: أَنَا أَعْلَمُ مِنْك بِذَلِكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ، إنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًّا، وَلَا فَارًّا بِدَمٍ، وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ. وَهذا مِنْ احْتِجَاجِ عَمْرٍو بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ قَائِمًا بِالْحَقِّ، عَادِلًا فِي الْحَرَمِ، دَاعِيًّا إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ. اهـ.
أي نرجو الفرج، فيكون تقدير الكلام: ومن يرد فيه إلحادًا بظلم.وفي الإِلحاد بالظلم أربعة تأويلات:أحدها: أنه الشرك بالله بأن يعبد فيه غير الله، وهذا قول مجاهد، وقتادة.والثاني: أنه استحلال الحرام فيه، وهذا قول ابن مسعود.والثالث: استحلال الحرام متعمدًا، وهذا قول ابن عباس.والرابع: أنه احتكار الطعام بمكة، وهذا قول حسان بن ثابت.قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في أبي سفيان بن حرب وأصحابه حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عمرته عام الحديبية. اهـ.
ومنه قول الأعشى: وهذا كثير ويجوز أن يكون التقدير {ومن يرد فيه} الناس {بإلحاد} والإلحاد الميل، وهذا الإلحاد والظلم يجمع جميع المعاصي من الكفر إلى الصغائر، فلعظم حرمة المكان توعد الله تعالى على نية السئية فيه، ومن نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب بذلك إلا في مكة، هذا قول ابن مسعود وجماعة من الصحابة وغيرهم، وقال ابن عباس: الإلحاد في هذه الآية الشرك، وقال أيضًا: هو استحلال الحرام وحرمته، وقال مجاهد: هو العمل السيىء فيه، وقال عبد الله بن عمرو: قول لا والله وبلى والله بمكة من الإلحاد، وقال حبيب بن أبي ثابت: الحكرة بمكة من الإلحاد بالظلم. ع. والعموم يأتي على هذا كله، وقرأت فرقة {ومن يرد} من الورود حكاه الفراء، والأول أبين وأعم وأمدح للبقعة، و{من} شرط جازمة للفعل وذلك منع من عطفها على {الذين} والله المستعان. اهـ.
المعنى: وأسفله ينبت المرخ؛ وقال آخر: وقال آخر: هذا قول جمهور اللغويين.قال ابن قتيبة: والباء قد تزاد في الكلام، كهذه الآية، وكقوله تعالى: {اقرأ باسم ربك} [العلق: 1] {وهزِّي إِليك بجذع النخلة} [مريم: 24] {بأيِّكم المفتون} [القلم: 6] {تُلْقُون إِليهم بالمودَّة} [الممتحنة: 1] {عينًا يشرب بها} [الإنسان: 6] أي: يشربها؛ وقد تزاد من، كقوله تعالى: {ما أُريد منهم من رزق} [الذاريات: 57]، وتزاد اللام كقوله تعالى: {الذين هم لربهم يرهبون} [الأعراف: 154]، والكاف، كقوله تعالى: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11]، وعن، كقوله تعالى: {يخالِفون عن أمره} [النور: 63]، وأن، كقوله تعالى: {فإنَّه ملاقيكم} [الجمعة: 8]، وأن الخفيفة، كقوله تعالى: {فيما إِن مكنَّاكم فيه} [الأحقاف: 26]، وما، كقوله تعالى: {عما قليل ليصبحنَّ نادمين} [المؤمنون: 40]، والواو كقوله تعالى: {وتَلَّه للجبين وناديناه} [الصافات: 103، 104].وفي المراد بهذا الإِلحاد خمسة أقوال.أحدها: أنه الظلم، رواه العوفي عن ابن عباس.وقال مجاهد: هو عمل سيئة؛ فعلى هذا تدخل فيه جميع المعاصي، وقد روي عن عمر ابن الخطاب أنه قال: لا تحتكروا الطعام بمكة، فإن احتكار الطعام بمكة إِلحاد بظلم.والثاني: أنه الشرك، رواه ابن ابي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وقتادة.والثالث: الشرك والقتل، قاله عطاء.والرابع: أنه استحلال محظورات الإِحرام، وهذا المعنى محكيٌّ عن عطاء أيضًا.والخامس: استحلال الحرام تعمُّدًا، قاله ابن جريج.فإن قيل: هل يؤاخذ الإنسان إِن أراد الظلم بمكة، ولم يفعله؟فالجواب من وجهين.أحدهما: أنه إِذا هم بذلك في الحرم خاصَّة، عوقب، هذا مذهب ابن مسعود، فإنه قال: لو أن رجلًا هم بخطيئة، لم تكتب عليه ما لم يعملها، ولو أن رجلًا هم بقتل مؤمن عند البيت، وهو بـ: عَدَنِ أَبْيَن، أذاقه الله في الدنيا من عذاب أليم.وقال الضحاك: إِن الرجل ليهمُّ بالخطيئة بمكة وهو بأرضٍ أخرى، فتكتب عليه ولم يعملها.وقال مجاهد: تضاعف السيئات بمكة، كما تضاعف الحسنات.وسئل الإِمام أحمد: هل تكتب السيئة أكثر من واحدة؟ فقال: لا، إِلا بمكة لتعظيم البلد.وأحمد على هذا يرى فضيلة المجاورة بها؛ وقد جاور جابر بن عبد الله، وكان ابن عمر يقيم بها.والثاني: أن معنى: ومن يرد: من يعمل.قال أبو سليمان الدمشقي: هذا قول سائر من حفظنا عنه. اهـ.
|